دلالة الفطرة سابقة لدلالة العقل ..
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
يولد على الفطرة: أي على الإقرار بالتوحيد ، وهنا يقول أهل العلم: إن توحيد الربوبية - مثلاً - فطري ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة ... ) مع أن المولود عند ولادته لا يتمتع لا بالعقل الضروري ولا بالعقل النظري ؛ لأن قوة العقل لم تتكون عنده ، فدل الحديث على أن الفطرة قوة من المعنى الوجودي ثابت في النفس عند الخلق ، فكما أن الإنسان يولد وله يد، فهو يولد وفيه فطرة .
قد لا يستطيع العقل أن يفقه عن مدرك الفطرة أكثر من هذا، لكنها شيء قائم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) مع أنه عند تهوده وتنصره أو تمجسه ، يكون قد شهد مدرك العقل ، ولهذا لا يمكن أن الأبوين يهودان الصبي إلا عندما يكون عنده التمييز العقلي ، حتى يفقه أن هذا مسلم وأن هذا يهودي ...
والفطرة تدل على عامة الأصول الشرعية أو تقتضيها ..
وفرق بين الجهتين :
الجهة الأولى : أن تكون الفطرة دلت على طلب هذا الأصل.
الجهة الثانية: أن تكون الفطرة دلت على قبوله عند طلب الشارع له ؛ بمعنى أن الفطرة تقتضيه ..
ولهذا عامة التشريع تقتضي الفطرة طلبه ابتداءً أو تقتضي قبوله عند طلبه ، ولا تنافيه ، لكن الفطرة ابتداء لا تعين تفصيل مسائل الشريعة ، فالفطرة لا يمكن أن تعين أن الصلوات خمس ، وأن صلاة الضحى ركعتان إلى ثمان ، وأن الظهر أربع ..إلخ
الفطرة تقتضي وتطلب التعبد لله كجملة ، الخضوع لله كجملة ، العدل كجملة ، لكن تفاصيل مسائل العدل المالية لا تتوصل إليها الفطرة قبل ورود الشرع ..
إذن الفطرة هي معاني كلية من هذا الوجه ، إما أنها تقتضي الطلب ، كاقتضاء الفطرة للتوحيد ، وكل الأصول الكلية من الدين كالتوحيد تدل عليها الفطرة طلبًا ، أي أن الفطرة ترغب في تحصيلها ، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام :
( كل مولود يولد على الفطرة ) وقوله تعالى: وإذ أخذَ ربُّكَ من بني آدمَ من ظهورهم ذريَّتَهُم [الأعراف:172]
وقد تكون الفطرة دون درجة الطلب ، ولكنها تقتضي الموافقة عند وجود الشيء تشريعًا أو خبرًا . هذا ما يتعلق بذات الفطرة ..
وعليه ندرك أن التوحيد -توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات- تدل عليه الفطرة ، ولا يصح أن يقال إن الفطرة لا تدل إلا على توحيد الربوبية ، فهذا الكلام غلط شديد ، بل الفطرة تدل على توحيد الله ، وتوحيد الله هو معنىً كلي واحد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهُ الله - : ( توحيد الله معرفته وعبادته ) ..
وإنما قسم أهل العلم رحمهم الله التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة ، أو إلى توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الإرادة والقصد من باب التراتيب العلمية .
ولهذا يقال: إن توحيد الله سبحانه وتعالى -سواء كان جهة ربوبيته أو جهة ألوهيته أو جهة أسمائه وصفاته- هو من حيث أصله الكلي ثابت بالفطرة .